نحو سودان أخضر .. مستقر ومتقدم 5 – 10 إصلاح الخدمة المدنية

*نحو سودان أخضر  .. مستقر ومتقدم 5 – 10*

د. عيسى محمد عبد اللطيف

مستشار العناية بالبيئة واستدامة التنمية

eabdellatif@yahoo.com

*(5) إصلاح الخدمة المدنية*

اتفقنا فيما سبق من حلقات أن “العدل والمؤسسية” ضرورتان لإشاعة الأمان والسلام في المجتمع وإزكاء الروح الوطنية والتحفيز على الإخلاص في العمل. وأول القطاعات التي يجب أن نستهدفها لإشاعة العدل والمؤسسية قطاع الخدمة المدنية التي تسيّر دولاب العمل في كل الدولة، وبفسادها يفسد كل شيء في جسد وعضد الدولة.

إن فساد الخدمة المدنية في السودان له جذور عميقة تمتد الى ما قبل عهد الإنقاذ الجائر. وبالطبع فإنه تعمّق وأصبح كجرح السكري الغائر في عهد التمكين وغياب المحاسبة مع إطلاق العنان للمحسوبية وسرقة المال العام وما تبعها من مصائب أصابت البلد والمواطن في مقتل. وبالتالي فإنها تحتاج لعناية خاصة لنظافة هذا الجرح لأن الأوعية الدموية في الأطراف مسدودة وأعصاب الأطراف لا تحس تماماً كمريض السكري.

وقد لا نستطيع أن نحصر جوانب الخدمة المدنية التي تحتاج للمعالجة لكثرتها، ولكني سأتناول جانب هام وهو “استباحة المال العام”. وليس المقصود هنا سرقة المال العام عن طريق تزوير المستندات أو التجنيب فهذا جانب يمكن ردعه بتطبيق القانون، بل المقصود استباحة إمكانيات المؤسسات المادية وتوظيفها لخدمة الموظف وليس لخدمة المؤسسة مثل المركبات والأدوات المكتبية والحوافز والسفر وغيرها من الجوانب التي يمكن تغطيتها قانونياً وتبريرها بالسكوت عليها فيما بين المستفيدين الذين تتفاوت استفادتهم، إذ لا بد للمدير مثلاً من تخصيص شيء للمحاسب ومدير المكتب والسائق مقابل سكوتهم باتفاق صامت.  وكل مدير جديد يجد هذا النظام السائد أمامه ويسير عليه.

وهنا نود التركيز على الرأس في كل مؤسسة، إذ لا يخفى على أحد أن هناك مرض عضال وقديم في مؤسساتنا يتعلق بالإدارة العليا. إن مدير المؤسسة يتم تعيينه بعقد عمل ومخصصات لخدمة المؤسسة وتحقيق أهدافها الوطنية، ولكنك تحس أن المؤسسة وُجدت لخدمة المدير وحاشيته وأسرته وليس العكس، فتجد أغلب إمكانيات المؤسسة موظفة لخدمة المدير ومن يخدمون في مكتبه من مدير مكتب وعلاقات عامة وكتبة وسواقين وفراشين، إضافة إلى الإداريين والمحاسبين الذين تربطهم علاقة بمخصصات وسفر وحوافز المدير وغيرهم .. بل قد تجد أسرة المدير صارت جزء من المؤسسة ولها مخصصاتها الكبيرة. هذه الظاهرة تكاد تكون عامة في كل المؤسسات إلا من رحم ربي، من أصغر المؤسسات إلى المحليات ورئاسة الولايات والوزارات ورئاسة الجمهورية التي وصلت درجة تخصيص 52 سيارة لخدمة الرئيس في العهد البائد.

حتى المؤسسات الأكاديمية المرموقة مثل جامعة الخرطوم لا تخلو من هذه الظاهرة الخطيرة، فقد تجد موظف صغير في الإدارة لا تقل مخصصاته عن البروفيسور لأنه مرتبط بشؤون المدير بطريقة ما .. وقد تجد 5 مركبات مخصصة لمكتب المدير، بينما هناك قسم في كلية العلوم مثلاً يفترض أن يقوم بعمل ميداني ليست لديه مركبة صالحة لهذا الغرض. والخروج من هذه القاعدة لا يكون إلا في حالات محدودة حيث تجد المدير منتبه لهذا الشيء ونزيه يترفع عن أخذ ما ليس له، وقد يكون المدير نزيهاً ولكن ليست لديه الكاريزما الكافية لمواجهة الحاشية التي يجدها أمامه في مكتبه ويقاومون أي تغيير يحرمهم من الحوافز والمكتسبات العينية. ولا يخفى عليكم أن الحاشية حول المدراء والرؤساء دائماً يكون فيها عناصر متسلقة ومن النوع الذي يستطيع أن يحفر لك ويرميك في أقرب حفرة إذا أحس أنك تهدد مصالحه. وفي عهد الإنقاذ رأينا المدراء الذين لا يتخذون أي قرار أصلاً لأن هناك أحد موظفيه ممن هم أعلى منه درجة في الولاء للتنظيم هو المدير الفعلي للمؤسسة.

وإذا أردنا مثال لحالة شاذة فسأذكر مثال أعرفه جيداً لأستاذنا الجليل البروفيسور فيصل تاج الدين أبوشامة عندما تم تعيينه مديراً للمركز القومي للبحوث قام بإعادة هيكلة المركز في شكل معاهد تخصصية تعمل شبه مستقلة، ومن ثم قام بتوزيع المركبات والإمكانيات المخصصة لمكتب المدير على المعاهد لتؤدي واجبها المنوط بها ولم يستخدم إمكانيات المؤسسة لخدمة أسرته قط.

أما الطرائف المضحكة المُبكية المتعلقة بهذا الأمر فسأذكر منها واحدة أيضاً، فقد تقدم زميلنا البروفيسور عاصم المغربي بطلب إلى مكتب مدير جامعة الخرطوم ليُمنح إذن السفر والمخصصات لحضور مؤتمر علمي خارج البلاد يفترض أن يقدم فيه ورقة علمية باسم الجامعة. قال له مدير مكتب المدير أن هناك شح في المال المخصص للمؤتمرات، فإذا وجدت تمويل من جهة مانحة فلا مانع من السفر. فرد عليه بأن مدير الجامعة نفسه مسافر لمؤتمر علمي، فهل وجد تمويل من خارج الجامعة؟ .. فقال له: (لكن هذا بروفيسور) .. فما كان من البروفيسور عاصم الا أن استدار نحو الباب خارجاً وقال له: (أُمّال أنا تربال ؟). وهكذا سافر المدير لمؤتمر لم يقدم فيه شئ وكان مستمعاً فقط ، بينما حُرم زميلنا من حضور المؤتمر الذي كان سيقدم فيه ورقة علمية ليكون السودان من الدول المساهمة علمياً.

أعتقد جازماً أن حال الخدمة المدنية لن ينصلح ولن تعود أهداف المؤسسات الى خدمة البلاد والعباد ما لم نضبط مكتب المدير بالقوانين واللوائح والمحاسبة ومراجعة كل ما هو مخصص للمدير دورياً وقانونياً حتى لا تكون هناك ثغرة للمتسلقين وحاشية السلطان ليعيثوا فساداً كما كان سائداً منذ الاستقلال ووصل مراحله القصوى في عهد التمكين وعدم الاعتراف بحقوق المواطن، حين كان المواطن في خدمة النظام الحاكم وليس العكس كما ينبغي.

ومن ثم فإن المدير يكون متفرغاً لتحقيق أهداف المؤسسة ويخصص الإمكانيات المتاحة للأولويات مثل تأهيل الكادر البشري وتطوير قدراته باستمرار وتهيئة بيئة العمل التي تساعد على الإنتاج وتقدير الجهود والإنجازات وتقييمها الدوري للتحسين.

——————————————————————————–

* عن الكاتب:  د. عيسى محمد عبد اللطيف

كبير المستشارين بمؤسسة زايد الدولية للبيئة بدبي  (منذ 1999)

  • حنتوب الثانوية 1972 // جامعة الخرطوم – كلية العلوم 1977
  • ماجستير ودكتوراة في علم البيئة جامعة كنساس الأمريكية 1985
  • أستاذ سابق لعلوم البيئة بجامعة الخرطوم ( 1985 – 1997)
  • رئيس سابق للجمعية السودانية لحماية البيئة (1992 -1997)
  • مؤسس برنامج الدراسات البيئية بجامعة أمدرمان الأهلية (1986)
  • تقييم الأثر البيئي لعدة مشاريع بالجزيرة وسنار والشمالية والبحر الأحمر
  • كبير خبراء برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لمشروع تطوير أنظمة الإدارة البيئية ببلدية أبوظبي (1997 – 1998)
  • محرر سلسلة كتاب “عالم البيئة” بمؤسسة زايد التي أصدرت 25 كتاباً حول قضايا البيئة والتنمية المستدامة حتى الآن.
  • أستاذ علوم البيئة واستدامة التنمية المتعاون لبرنامج “ماجستير القانون والبيئة” بأكاديمية شرطة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Thanks for submitting your comment!