نحو سودان أخضر (4-10) – استراتيجية السودان للتنمية المستدامة

(4) استراتيجية السودان للتنمية المستدامة

مواصلةً لسلسلة المقالات حول بناء السودان، أرجو أن أعيد تثبيت الثلاثة مبادئ الأساسية لتحقيق التنمية المستدامة في السودان:

الأول: أن تنمية أي بلد مُعتمد على الموارد الطبيعية مثل السودان تبدأ من الريف وليس من المركز. 

والثاني: أن عماد التنمية “الإنسان” الصحيح العقل والنفس والبدن والمُسلّح بالمعرفة والثقافة.

والثالث: أن أساس الصحة “الوقاية” وأساس الوقاية “الصحة العامة” وأساس الصحة العامة “صحة البيئة وجودة الماء والغذاء” ..

ونثبّت أن الهدف العام الأساسي لعمل الحكومة الإنتقالية وما بعدها يجب أن يصب في تحقيق “أهداف التنمية المستدامة” المتفق عليها عالمياً منذ 2015 ، وهي 17 هدفاً تغطي أولويات تنمية السودان وترقيته. إذ أنها تستهدف 6 محاور هي:

  • محاربة الفقر لتحقيق العيش بكرامة ؛
  • تمتع الجميع بالصحة والمعرفة واشراك كل فئات المجتمع ؛
  • بناء اقتصاد معافى يشمل الجميع ويفضي الى تحول حقيقي؛
  • العدل والمؤسسية لاشاعة الأمان والسلام في المجتمع؛
  • حماية النظم البيئية لصالح مجتمع الحاضر والمستقبل؛
  • الشراكة والتضامن الوطني والإقليمي والعالمي من أجل استدامة التنمية.

والتنمية المستدامة بمفهومها الشامل مثلث أضلاعه:

  • كفاءة وشمولية الإقتصاد
  • البيئة السليمة
  • القبول الإجتماعي.

وهنا نرى أهمية الشراكة والمشاركة بالنسبة لقطاعات المجتمع المختلفة لتحقيق الشمولية والقبول. ونكرر أن مقياسنا لتعافي الإقتصاد يجب أن لا يعتمد على الناتج القومي الإجمالي، الذي يمكن أن يرتفع عن طريق الإنتاج المُكثّف للتصدير ويستنزف الموارد الطبيعية دون تحقيق أي تنمية إجتماعية تذكر .

وبهذا الفهم المُشترك ندخل في حلقتنا الرابعة من السلسلة، والتي تهدف لوضع خطوط عريضة لمناقشة استراتيجية السودان للتنمية المستدامة في ظل الحكم المدني الرشيد.

هذه مبادرة وطنية مختصرة لإطلاق إقتصاد أخضر يحقق نمو إقتصادي مستمر بالحفاظ على البيئة واستغلال الموارد الطبيعية بصورة رشيدة ومستدامة.كما أنه يتميز بالشمولية والعدالة الإجتماعية ومحاربة الفقر، بحيث تستفيد كل قطاعات المجتمع من النمو الإقتصادي وليس فقط المستثمرين. 

تشمل المبادرة مجموعة من التشريعات والبرامج والسياسات التي تحكم وتنشّط المشاريع والاستثمارات في مجالات الطاقة والزراعة والثروة الحيوانية والغابات والصناعة والنقل الأخضر والسياحة البيئية، إضافة إلى سياسات بيئية وعمرانية تهدف لرفع جودة الحياة في ريف البلاد وحضرها.

 تشمل الإستراتيجية محاور رئيسية منها:

1- محور الطاقة الخضراء: ويشمل حزمة من التشريعات والبرامج والسياسات الهادفة لإنتاج واستخدام الطاقة المتجددة وتشجيع استخدام الوقود النظيف لإنتاج الطاقة والعمل على تطوير معايير كفاءة استهلاك الطاقة في القطاعين الحكومي والخاص.

ومن أهم مصادر الطاقة النظيفة والمتوفرة بكثرة في السودان الطاقة الشمسية التي أصبحت مصدر طاقة شائع في عالم اليوم حتى في الدول الأوربية التي لا تملك مثل شمسنا الحارقة. وإذا كان احتياج البلاد من الطاقة حالياً حوالي 5000 ميجاوات، فإن مدينة دبي فقط ستنتج 5000 ميجاوات من الطاقة الشمسية بحلول 2030 ، ولتخفيف الحمل على الشبكة اطلقت مشروع شمس دبي الذي يشجع ويقوم بتسهيل تركيب لوحات شمسية للمنازل والتي بدورها تبيع الكهرباء الزائدة لهيئة الكهرباء. وفي المملكة المغربية، وهي دولة فقيرة مثل السودان،  ينتجون الآن قرابة 400 ميجاوات من الطاقة الشمسية ويهدفون لتوفير 41% من احتياجاتهم للكهرباء من الطاقة المتجددة.

نحن نستطيع انتاج طاقة شمسية حرارية للشبكة العامة والشبكات الولائية التي تمد الصناعة والمؤسسات الحساسة بالكهرباء .. وطاقة شمسية ضوئية لا مركزية بحيث تقوم كل ولاية بعمل مشروع لإدخال الطاقة الشمسية في المشاريع الزراعية المروية والمنازل والمؤسسات الحكومية، وادخال الفائض في الشبكة الولائية، وتقدر تكلفة انتاج الكيلوواط للمنازل ب 1000 دولار ويحتاج مساحة 8 متر مربع للوحات . كما أن بعض المناطق تستطيع استخدام طاقة الرياح التي تطورت كثيراً، مثل بعض مناطق ساحل البحر الأحمر.

 وستجد الدولة الدعم من العالم لإنتاج الطاقة المتجددة لأن ذلك يساهم في مكافحة الإحتباس الحراري الذي يهدد مستقبل الحياة على كوكب الأرض.

2- محور الحياة الخضراء: ويشمل مجموعة من التشريعات والسياسات والبرامج الهادفة لتكثيف التربية والتوعية والتثقيف البيئي لتحقيق ترشيد استخدام موارد الماء والطاقة والموارد الطبيعية، بالإضافة إلى مشاريع فرز وتدوير وإعادة استخدام المخلفات الناتجة عن الاستخدامات التجارية والمنزلية والفردية. وهذا يتطلب تغيير شامل في مفاهيم ومناهج التربية والتعليم والإعلام بحيث تنتج لنا مواطن مسؤول يحترم القانون والرأي الآخر وحقوق الآخرين ويحب العمل ويؤديه بكفاءة وإخلاص ويمارس السلوك البيئي والصحي القويم.

3- محور الاقتصاد الأخضر: ويشمل السياسات الحكومية الهادفة لتشجيع وتسهيل الاستثمار في عمليات إنتاج وتصدير واستيراد المنتجات والتقنيات الخضراء مع توفير فرص العمل للشباب وتجهيز الكوادر الوطنية في هذه المجالات. والهدف الأساسي هو تحقيق كفاءة الإنتاج والعدالة الإجتماعية والمحافظة على البيئة مع النمو الإقتصادي المستدام.

الاقتصاد الأخضر هو الوسيلة الأساسية لتحقيق التنمية المستدامة، بحيث ينتج عنه تحسّن في المستوى المعيشي ورفاهية الإنسان والمساواة الاجتماعية، في حين يقلل بصورة ملحوظة من المخاطر البيئية وندرة الموارد الإيكولوجية.

وهنا يكون التركيز على الزراعة النظيفة والصناعة النظيفة واستدامة الموارد المائية والغابات والمراعي والثروة السمكية بأنواعها المختلفة، بالإضافة الى الإستثمار في السياحة البيئية والنقل المستدام. يجب تحديث قطاعات الإنتاج والطاقة وتوليد أنماط جديدة من الصناعات التنافسية القادرة على زيادة فرص العمل، خاصة الصناعات التحويلية لمنتجاتنا التي نصدرها الآن خام.

هذا من شأنه، وفقاً لتقرير الأمم المتحدة، أن يحقق معدلات نمو سنوية أعلى، فمثلا يمكن أن تؤدي زيادة الكفاءة في قطاعات الزراعة والصناعة والمباني الى تقليص الطلب على الماء، وارتفاع جودة التربة وزيادة العائدات من المحاصيل الرئيسية بنحو 10% عالمياً، مقارنة باستمرار الأنماط الحالية. كما يؤكد التقرير أن الاقتصاد الأخضر يعجل بالتقدم الاقتصادي ويساهم في التخفيف من الفقر، ويخلق الوظائف، ويوفر شبكة أمان تحمي من الكوارث الطبيعية والصدمات الاقتصادية، ويجنب المجتمع العديد من المخاطر مثل تأثير التصحر وتغير المناخ وتفاقم ندرة المياه وتدهور خدمات النظام البيئي.

4- محور التقنيات الخضراء: ويشمل مجموعة التشريعات والسياسات والبرامج التي تشجع وتدعم ابتكار واستخدام التقنيات الصديقة للبيئة في المجالات المختلفة. ويكون التركيز في المرحلة الأولى على تقنيات تحضير الأرض والزراعة، وحصاد المحاصيل والفواكه ومنتجات الغابات، بالإضافة لتقنيات تحويل النفايات إلى طاقة ومعالجة مياه الصرف الصحي والصناعي.

5- محور المدن والقرى الخضراء: ويشمل مجموعة من سياسات التخطيط العمراني الهادفة للحفاظ على البيئة، وتوفير الحدائق العامة ورفع كفاءة المباني بيئيا، وتشجيع وسائل النقل الصديقة للبيئة، وبرامج تنقية الهواء الداخلي للمباني وهواء المُدن والقٌرى لتوفير بيئة صحية للجميع. وتعتبر المركبات القديمة والركشات وحرائق النفايات من أهم مصادر تلوث الهواء خاصة في المدن الكبيرة وفي الأزقّة الضيقة للقرى.

هذه ورقة عمل يمكن أن يهتدي بها فريق من الخبراء لوضع استراتيجية متكاملة ومفصلة للتنمية المستدامة في السودان تكون بمثابة خارطة طريق لنهضة البلاد. والفريق لا بد أن يضم خبراء في:

  • وضع مناهج التربية والتعليم
  • التخطيط الإعلامي
  • التخطيط العمراني
  • التخطيط الإقتصادي
  • علم الإجتماع
  • البيئة واستدامة التنمية
  • القانون البيئي والإتفاقيات الدولية
  • المالية والتمويل

نسأل الله تعالى أن يخرج بلدنا الطيب من عنق الزجاجة الى بر الأمان والإستقرار والتقدم والرخاء .. وأن يرحم شهداءانا ويشفي جرحانا ويعيد المفقودين سالمين غانمين.

_________________________________

* عن الكاتب:  د. عيسى محمد عبد اللطيف

  • حنتوب الثانوية 1972 // جامعة الخرطوم – كلية العلوم 1977
  • ماجستير ودكتوراة في علم البيئة جامعة كنساس الأمريكية 1985
  • أستاذ سابق لعلوم البيئة بجامعة الخرطوم ( 1985 – 1997)
  • رئيس سابق للجمعية السودانية لحماية البيئة (1992 -1997)
  • مؤسس برنامج الدراسات البيئية بجامعة أمدرمان الأهلية (1986)
  • تقييم الأثر البيئي لعدة مشاريع بالجزيرة وسنار والشمالية والبحر الأحمر
  • كبير خبراء برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لمشروع تطوير أنظمة الإدارة البيئية ببلدية أبوظبي (1997 – 1998)
  • حالياً: كبير المستشارين بمؤسسة زايد الدولية للبيئة بدبي
  • ومحرر سلسلة كتاب “عالم البيئة” بمؤسسة زايد (أصدرت 25 كتاباً)
Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Thanks for submitting your comment!